تجربتي مع الامومة

تجربتي مع الامومة

24-02-2021
عبير

تجربتي مع الامومة!

الحديث عن الامومة وفضل الام وحبها الكبير وقدرها العظيم يبدأ منذ عمر مبكر. فكم كتبنا عن ذلك في موضوعات التعبير بالفصول الاولى لمراحل تعليمنا. وكم رسمنا بالحب اجمل اللوحات في عشق الأم. وحفظنا الأحاديث والآيات والتي في كل الديانات عبرت عن فضل الام وقدرها. لكن صدقوني أعزائي القراء عندما أقول أنني لم اعرف ماهي الأمومة قبل أن أشعر بحركات جنيني الاولى. هل يعني هذا أن الابناء من الصبية لن يعرفوا أبداً معنى الامومة؟ نعم صدقوني قد يعرفوا ماهي الأبوة لكن الأمومة شعور ومعنى لا تعبر عنه اللغة مهما ارتقت، ولن يدركه الحرف مهما اتضح ولا اللسان مهما أفصح. وعندما بدأت أكتب عن تجربتي مع الأمومة لم أكن أعرف كيف أبدأ، ولا كيف سأنتهي، ولا إن كنت سأوفق في التعبير عن هذه التجربة التي لم تكن عضوية فقط ولا اجتماعية ولا شخصية، بل تجربة  وجدانية وروحية وإنسانية عميقة لا تخلو من أسرار وإعجاز بأي حال.

إنّ تجربة الأمومة تعلّم الأمّ قبل الابناء. وكل ما نراه قبل الأمومة هو مجرد قشرة خارجية أو جبل الجليد الذي يرتكز على وتد يختبيء عن العيون في أعماق المياه وخلف حجب الثلج، رغم أنّه يفوق في حجمه الجبل ذاته باضعاف. أنّ تكون المرأة أمّاً لكائن بشري آخر معجزة في حد ذاتها. ليس على مستوى نظرة الآخرين لها، بل التحوّلات التي تمر بها أثناء ذلك، وبعده. ببساطة شتان ما بين شخصيتي قبل إنجاب ابنتيّ وبعده.

لدى شعوري بوجود كائن آخر صغير لا حول له ولا قوة في أحشائي، تركت كل ما يخصني جانباً. وصرت أهتم به وأهتم بنفسي من اجله، لأوفر له ما يحتاج من غذاء ودفء وحب وراحة وحماية، وهذا ليس امراً اختيارياً ولا إجبارياً بل إلزامي تفرضه علي المسؤولية أمام الله ونفسي والمجتمع عن هذا الجنين. وعرفت أنّ كل أفكاري عن الأمومة كانت نابعة من محض خيال. فالأمر جديّ إلى أقصى حدود الجدية. وليس مجرد فرحة " زادت عائلتنا قطعة سكر أخرى"!

هذا لا يعني أنني كنت على حق في كل قرار اتخذته بوصفي اماً. لقد ارتكبت بالتأكيد عدداً من الأخطاء لكني طوال الوقت كنت مهمومة بالقيام بواجبي بشكل سليم. لقد اتخذت قرارات مؤلمة في وقت لم أكن أعرف ماهو صحيح أو خطأ، كنت فقط أقرأ كثيراً ومن جميع المصادر. وأحاول موازنة الامور بعقلي القاصر الذي يشده القلب في كل اتجاه وتطغى عليه الحمائية والخوف الشديد على الصغار.

فالأمومة التزام للأبد بالانحياز لسلامة ورفاهية ومصلحة الأبناء لآخر رمق بغضِ النظر عن أي تضحيات أو أثمان يتطلبها الوفاء بهذا الالتزام!

عندما علمت بحملي بتوأم في الشهر الرابع، وبأنّ في الحركة خطورة علي، تركت العمل بدون أدنى تفكير، استقلت. وبقيت في المنزل، حتى الولادة. ارتبطت في هذه الفترة بالمواقع والمجلات الإلكترونية التي تقدم معلومات عن الرعاية أثناء الحمل وعن ما ينبغي على الام مراعاته أثناء الحمل وكيف يتسنى لها الاستعداد للوضوع. وتطوّر الأجنة ومهاراتهم ومتى يمكنهم السمع وماهي الأشياء التي تؤثر عليهم وكيف أطور نفسي وأدخل أنشطة جديدة على روتيني اليومي لأسهم في تطورهم بشكل أقرب إلى منحنى النمو المثالي بحسب العمر والوزن. ليست الانشطة فقط بل الاغذية والتخطيط للمستقبل بمعرفة كل ما له علاقة بالعناية بالأطفال بعد الولادة أيضاً، من تغذية ونوم وسلوك واحتياجات الاطفال العاطفية والتصرفات الشخصية التي علي تعديلها حتى أكون قدوة أفضل لابنائي.

وعندما وضعت لم اتركهم وأعود إلى العمل، لأني قررت تغذيتهم طبيعياً. ألغيت قرار العمل بعد ان يبلغوا ستة أشهر وتصبح معدتهم قادرة على هضم أشياء إضافية بجانب الحليب الطبيعي والبديل، لأني لم ارد تعريضهم لصدمة الانفصال عن الأم والبقاء وحدهم مع أشخاص غرباء، لأني كنت أعيش بعيدة عن أسرتي. وأجلت العمل مرة أخرى حتى الثالثة من العمر لأنّهم لم يكونوا قادرين قبلها على الحديث إلي بما حدث معهم في الحضانة، ولم أشأ المغامرة بسلامتهم النفسية والجسدية. واحذروا ماذا أيضاً؟ قررت العمل من المنزل حتى أكون بانتظارهم عندما يعودوا من المدرسة، فموعد عودتهم كان قبل انتهاء دوام العمل الرسمي في بلادي بساعتين. وربما كان خوفي هنا مبالغاً فيه، لكنه يعد من الاخطاء الامومية الرحيمة، رغم أنني ارى تبعاته عليهم وقتها في بطء الاندماج مع الاقران، ثم الشغف الشديد بالمناسبات الاجتماعية واللقاءات مع الآخرين بعد عدة سنوات. وهو الشيء الذي عرفت فيما بعد أنّ له اسباباً اخرى منها كون التوام هو الوحيد بدون إخوة قبلهم أو بعدهم. وكونهم من الشخصيات الاجتماعية بالفطرة. وهو شيء خفف إلى حد كبير من شعوري بالذنب. هذه مجرد أمثلة فقط على بعض الامور التي قد تضطر الام دون سواها إلى مواجهتها، والقرارات التي قد تتخذها بحسابات لا تنطبق على غير الامهات. هذه أمثلة على قرارات خطيرة لكني لم أندم على أيّا منها، وما زلت بعد أكثر من عشرة سنوات أميل إلى اتخاذها مرة أخرى لو تكررت الظروف.

إنّ تجربة الأمومة تعلّم الأمّ قبل الابناء. وكل ما نراه قبل الأمومة هو مجرد قشرة خارجية أو جبل الجليد الذي يرتكز على وتد يختبيء عن العيون في أعماق المياه وخلف حجب الثلج، رغم أنّه يفوق في حجمه الجبل ذاته باضعاف. أنّ تكون المرأة أمّاً لكائن بشري آخر معجزة في حد ذاتها. ليس على مستوى نظرة الآخرين لها، بل التحوّلات التي تمر بها أثناء ذلك، وبعده. ببساطة شتان ما بين شخصيتي قبل إنجاب ابنتيّ وبعده.

بقدر ما كانت الأمومة إيثار عظيم للأبناء في كل النواحي إلا أنّ تجربتي معها لم تخل من تطوّر ذاتي على عدة مناح. فقد اتخذت قرارات بترك أشياء كانت ستؤثر على شخصياتهم سلباً، وأدخلت على سلوكياتي عادات لم تكن عندي. ومنها القرار بعدم الكذب عليهم أو على غيرهم ليس أمامهم فقط بل بشكل مطلق، وتحرّي الامانة الكاملة في كل أموري وإتقان كل شيء والحرص على ما يسمعون على الأقل في فترة السنوات الثلاث الأولى التي تتشكل فيها شخصية الطفل، وأشياء أخرى كثيرة منها تعلّم هوايات منزلية وتعلّم العمل من المنزل كحلّ لمعضلة الانحياز لاحتياجهم للأم طوال اليوم والحاجة لزيادة دخل الاسرة لمقابلة التغيرات الاقتصادية التي شهدتها البشرية بشكل واسع منذ عام 2010، والتي كانت تصطبغ بسواد الركود العالمي وأزمة الرهن الشهيرة عام 2008.

تجربتي في الأمومة علمتني كيف أقوم بأشياء كثيرة جداً لم يخطر لي يوماً احتمال تعلمها أو الاهتمام بها، علمتني كيف أقوم بإصلاح أشياء لم أكن أعرف كيف أصلحها، وكيف أهديء المخاوف المظلمة بلمسة حانية، وأرسم البسمات في وجوه أطفالي وجميع الاطفال، بفكرة حانية يلتقط شعاعها إنسان عيني فيعكسه كسهم ينفذ لقلب الصغير فيفرحه وينعشه، ويهديء من روعه، في وقت أعالج فيه خوفاً اعظم، وأعاني فيه من الإرهاق بسبب الرضاعة أثناء الليل، أو الجلوس اثنائها لاني عرفت أن الإرضاع والطفل في وضع افقي سبب رئيسي في إصابته بفطريات الأذن التي لم يكن من السهل علاجها، وتتسبب له في آلام لا يطيق لها احتمالاً. والالتزام بجدول رضاعة طبيعية قد يكون بتردد جلسة من 45 دقيقة لساعة ونصف كل ساعتين ونصف! وهذه هي الطريقة الموصى بها لتغذية الاطفال في الشهرين الاولين. كذلك لم اكن استخدم اللبن البديل إلا بعد أن ينفذ ما تم إنتاجه من حليب طبيعي. وذلك حتى لا يخسر اطفالي مميزات الرضاعة الطبيعية، التي قد تؤثر على تكوينهم الجسماني والنفساني ومناعتهم بشكل لا يكاد يتخيله الكثيرون. وكنت أتعزى بأنني أؤدي المسؤولية على اكمل وجه بقدر الإمكان.

نقشت في روحي هذه التجربة معالم واضحة تؤرخ لكل لحظة قلق مؤرقة، وكل نوبة فزع على فلذة كبدي، وكل نظرة جزع للسماء، وكل سجدة متضرعة في آخر الليل من أجل طفل صغير، وندبات أخرى تعلمت كيف أداويها ببسمات السعادة في وجوه أطفالي وتنهيدات الراحة المنبعثة برقة من صدورهم الصغيرة، ونضارة الشفاء من الحمى او الوعكات الصحية، وتهليلات النصر بعبور مراحل النمو واحدة بعد الاخرى، عند بروز سن جديد، أو القدرة على الوقوف، أو المشي او النطق بأول حرف وأول كلمة وأول ركلة للكرة وكتابة اول حرف ورسم اول لوحة....وكل يوم في التجربة بل كل لحظة.

كانت نتيجة التحوّلات التي تمت تبعاً لدراساتي حول آخر اساليب التربية والرعاية الامومية ومحاولة تطبيقها لاقصى حد في حياتي أن اكتسبت وعيّا عميقاً ومتجذراً ونابعاً عن تجربتي الاصيلة مع الأمومة. وأكتملت لدي عناصر شخصية قدّر لي أن أعيشها، خاصة أنني كنت اعامل الجميع منذ الطفولة المتأخرة أو سنين المراهقة على أنّهم أبنائي وبناتي. فتوجت التجربة بالمعرفة الواقعية والمرور العجيب ببوابة الامومة لأصبح شخصية أخرى، ربما لم تكن أكثر عطفاً وحباً للبشر لكنها أكثر إدراكاً لحقيقة المشاعر والاختلاجات الوجدانية والدوافع العميقة التي تبثها وتغرسها في بنات حواء أصابع معجزة الأمومة.

تجربتي مع الأمومة لم تكن سهلة، ولكنها مثلها مثل كل التجارب الإنسانية تنطوي على الكثير من الصبر والتحمل والتعلم والقوة والامل والإيمان والحب والإرادة القوية التي تكفي لقهر المستحيل، والشجاعة لخوض مياه غريبة مجهولة في ظلام الليل بحمل زائد في الاحشاء والعبور به إلى بر الامان سالماً وأنتِ سالمة من أجله. نعم قد ندخل تجربة الامومة بلا استعداد أحياناً، وننجح في كثير من الاحيان، لأنّ التجربة في ذاتها عملية تدريبية كبرى على ارض المعركة ذاتها. لكن ستكون أروع إن دخلناها بالاستعداد الكافي والمناسب، وليس هنالك أفضل من القراءة والتعلم والملاحظة والحديث مع الامهات، والتحلي بالمسؤولية الكافية للقيام بذلك بنفسك، دون الاعتماد على الغير سواء الأسرة الممتدة او المساعدة المتخصصة والمربيات. هذا لا يعني أن تتخلي عن المساعدة إجمالاً لكن اتركيها للظروف الاضطرارية والمناسبات النادرة، فهذا هو المفتاح الاهم لنجاح هذه التجربة لك ولطفلك، وأسألي مجّربة! وآخر ما أود قوله بهذا الخصوص ألا تتوقعي أو تنتظري من طفلك تعويضاً او مقابل، وهذا هو بالضبط ما يجعلك مؤهلة لمكافأة الله قبل مكافأة ابنائك لك. وصدقيني كانت تجربتي مع الامومة في حد ذاتها عبارة عن مكافأة، نقلتني إلى مستويات إنسانية ووجدانية أكثر سمواً مما كنت اتخيل. تجربة الامومة بشكل عام مسألة معقدة يتشابك فيها الخوف، والتقصير، ونقص الحيلة، والأمل والوعود والمسؤولية بشكل صادم أحياناً، لكنها على الرغم من ذلك تبقى من أكثر الظواهر في حياتنا إدهاشاً وعمقاً وتاثيراً.

#الأسرة #الأمومة 


تجارب من تصنيف الصحة والدواء











اكتب تجربتك